1 Cours
التاريخ
الدرس الأوّل
تونس إيالة عثمانية
تقديم
ليس من السهل على الباحث في تاريخ تونس الحديث عامة ادعاء القدرة على الخوض في تفاصيل الأحداث التاريخية التي عاشتها البلاد طيلة القرن السادس عشر. فنحن إزاء مرحلة مفصلية، أو حلقة تاريخية شكّلت على الدوام بقعة ظل يعسر الربط بين مختلف مكوناتها. الأخبار الموثوقة في خصوص القرن السادس عشر بإفريقية لا تزيد غالبا عن واقعتين عسكريتين محوريتين هما: حملة شارل الخامس Charles Quint على تونس سنة 1535 م، والحملة العثمانية التي قادها الوزير سنان باش في غضون صائفة 1574 م على نفس المدينة والتي حسمت مجرى التنافس بين القوتين العسكريتين وحوّلت إفريقية الى إيالة تابعة لدولة الأتراك العثمانيين.
غير أن الغياب التام لسجلات الأرشيف المحلي (حفصية كانت أم عثمانية) بالنسبة الى المرحلة التاريخية التي نحن إزاءها لا يعني عدم توفر جانب من تلك الوثائق ضمن الأرشيفات الأجنبية على غرار مكتبة سيمنكاس Simancas الاسبانية، وأرشيف مكتبة الفاتيكان Vatican بروما، وكذلك دفاتر المهمات أو "مهمة دفتري" بأرشيف الوزارة الأولى باسطمبول. كما أن التسلسل الزمني لأحداث القرن السادس عشر بإفريقية يحيلنا على عدة عميات عسكرية مدوّية قادها كبار رياس البحر من الغزاة الموالين للسلطنة العثمانية. وعلى هذا الأساس يمكن أن نتساءل عن خصوصيات الأوضاع التي عاشتها بلاد إفريقية حتى موعد التمركز العثماني بها. والأطوار الكبرى التي عاينتها الحملة الرسمية لقائد الجيش العثماني سنان باشا على مركز الدولة الحفصية الآفلة بمدينة تونس. وهل كان لمحاولات التمرّد التي قادها رياس البحر الموالون للدولة العثمانية دور في تهيئة الظروف السانحة لإنجاحها؟ وأخير ما طبيعة النظام السياسي والتراتيب الإدارية التي أرساها العثمانيون بعد أن استكملوا من خلال السيطرة النهائية على ما تبقى من التراب الافريقي امتدادهم غربا ؟.
I. التنافس الإسباني العثماني على إفريقية الحفصية وخصوصيات أوضاعها الداخلية إلى حدود حملة سنان باش عليها
1- التمركز الإسباني على السواحل الشرقية للبلاد وتشييد حصن حلق الوادي
مثلت حملة الوزير التركي سنان باش على مدينة تونس حدا فاصلا بين مرحلتين من تاريخ البلاد التونسية، تميّزت الأولى بالتفوّق الاسباني في حين شهدت الثانية تمركز حكم تركي تواصل دون انقطاع حتى موعد إجلاء الاستعمار الفرنسي وإعلان الجمهورية.
وقد ساهمت الحملات الاسبانية على السواحل المغربية التي إتّخذت شكلا متصاعدا منذ نهاية القرن الخامس عشر (1497 م) في التمركز بمناطق عديدة منها المرسى الكبير (إحدى بلديات ولاية وهران الجزائرية. احتلها رامون دي كاردونا سنة 1505 خلال حملات في شمال أفريقيا) ووهران وشرشال وبجاية وعنابة وطرابلس وذلك بين 1505 و 1511 م على أن يتم إلحاق ميناء بنزرت وتشييد حصن أو بسطيون ضخم عند خليج تونس بمرفإ حلق الوادي بوابة المدينة الأساسية على المتوسط سنة 1535 م.
وقد تم التمركز الاسباني بتونس إثر حملة رسمية نظّمها وقادها شارل الخامش (1516- 1556) بهدف إقصاء الوالي العثماني على الجزائر خير الدين بربروس الذي تمكّن في بداية صائفة 1534 من اختطاف هذا المركز مقصيا السلطان الحفصي أبا محمد الحسن (1526- 1542).
لذلك جاء رد الفعل الاسباني عاجلا بهدف تفادي أي توطين تركي بهذا الموضع الاستراتيجي من شأنه أن يعرقل جديّا مصالحهم التجارية.
وعلى اثر حملة عسكرية ضخمة (30 ماي 1535) أبيحت على إثرها المدينة للنهب وقتل ما لا يقل عن 30 ألف من سكانها، اعاد شارل الخامس للسلطان الحفصي أبي محمد الحسن ملكه الذي إنتزعه هو غصبا من يد أخيه الرشيد في شهر فيفري من سنة 1526 على أن ينتزعه منه الوالي العثماني على الجزائر خير الدين بمجرد حلوله بتونس سنة 1534. غير أن هذه العودة مجدّدا الى ممارسة مقاليد السلطة قد حصلت بعد إمضاء معاهدة رسمية بين الطرفين بتاريخ 6 جويلية 1535 سمحت للإسبان بمشاركة الحفصيين في الحكم. وذلك وفقا لخطتهم المبنية على إنجاز اقتطاع ترابي جزئي من خلال تشييد حصن أو "باسطيون" ضخم تحتمي الفيالق العسكرية الاسبانية وراء أسواره مع احتمال الضم الشامل في صورة عدم التزام السلطة الحفصية بالشروط المتفق عليها كتابيا.
ويعتبر "بسطيون" حلق الوادي واحد من أضخم المعالم العسكرية التي شيّدها الاسبان على السواحل المغاربية، فقد تواصلت عمليات الصيانة والتوسيع على مدى الثلاث والأربعين سنة التي إستغرقها تمركزهم بالبلاد. وقد استعملت في بنائه أنقاض الحنايا القرطاجية، وشكّل البناء في آخر حكم شارل الخامس معلما عسكريا مربّع الشكل احتوت زواياه الأربعة على أبراج بارزة في صورة رأس رمح. ثم تم بقرار من ابنه فيليب الثاني (1556- 1598) تضعيف مساحة ذلك المعلم بإضافة حصن جديد ضم أربعة أبراج شمال القنال وبرجين جنوبه تمت تغطية جميعها بقوالب من الحجارة النحتية. فتكونت من مجمل تلك المركبات مدينة أحاط بها ماء البحر وضمت جميع المرافق من خزانات للمياه ودور للجند وكنيسة للعبادة ومضارب لجواسيس الحامية الاسبانية بالمدينة من "المهجرسين" وشحن هذا الحصن بآلات الحرب من مدافع وبنادق وذخيرة وكور (جهاز لاحماء المعادن) وبارود وغيرها.
2. تدهور الأوضاع الداخلية بإفريقية وأزمة المخزن الحفصي
لئن ترتب على أحداث 1574 م زوال الدولة الحفصية، فإن أزمة هذه الدولة قد بدأت منذ أواخر القرن الخامس عشر، واتضح عجزها بشكل لافت للانتباه خلال القرن الموالي، وتجمع روايات المخبرين والرحالة على أن نهاية فترة حكم المولى أبي عمرو عثمان الحفصي الطويلة (1435- 1488) تمثل بداية التراجع. حيث تشير هذه الروايات الى كثرة المشعوذين في المدن الساحلية خاصّة (تونس والقيروان وسوسة والمنستير وقابس وجربة) وأدعياء الشرف والمتنبئين بوشك طي بساط الكون وقيام الساعة. كما إتّسم وضع الجهات والمدن الداخلية بالبؤس جراء تفشّي الأوبئة وتكاثر عدد الحرّابة من البدو.
كما أشارت المصادر الى واقع الانحسار العمراني والحضري الذي عاشته عدة مدن منها خاصّة عاصمة الحكم الحفصي مدينة تونس، التي شهدت ترديا واضحا لحق ببنياتها العمرانية وبالانشطة الأكثر تمثيلا لإقتصادياتها، بالاضافة الى تضرر مختلف الشرائح الاجتماعية وتضافر تلك الأوضاع الصعبة مع تقلبات الظرفيتين السياسيتين الداخلية والخارجية.
وبالتزامن مع تراجع سلطة الدولة الحفصية على مجالها الجغرافي وسيطرة القبائل المحاربة على جانب كبير منه إنبثقت بالقيروان دويلة طرقيّة مستقلة عن الشرعية الحفصية. توصّل شيوخها من الشابيين الى استقطاب كبريات التجمعات القبلية الفاعلة داخل المجال الافريقي (الحنانشة ودريد وطرود وجانب من أولاد سعيد). ومما زاد في تردي أوضاع المدينة توافد البدو عليها وإقامتهم بالقرب من أسوارها، إضافة الى ثقل الضرائب الموظفة على السكان من قبل أعوان المخزن الحفصي وهو ما دعاهم الى الترحيب بالحاميات التركية التي استقرت بها بعد إستيلاء الوالي العثماني بالجزائر خير الدين على مدينة تونس، كما إضطرّ الكثير من سكانها الميسورين الى الرحيل عن المدينة.
وعلى الرغم من المجهودات المضنية التي بذلها المخزن الحفصي سواء على أيام أبي محمد الحسن أو على أيام ابنه السلطان أحمد (1542-1569) فإن حسم الموقف العسكري قد إحتكرته منذ تاريخ ظهور تلك الدويلة على ساحة الأحداث السياسية أطراف أجنبية إسبانية أو تركية. غير أن صمود الشابيين قد أدى الى فشل كل محاولات الحسم، كما عجزت الحملات التي قادها رياس البحر من الأتراك على إقصاء الاسبان من مركزهم الحصين بحلق الوادي، فأضحت أوضاع البلاد مرتبطة بحركية المواجهات المتوسطية بين القوّتين الاسبانية والعثمانية.
3. أطوار الحملة العثمانية لسنة 1974 على تونس ودور رياس البحر الأتراك في إنجاحها
أ. حصار حلق الوادي ونواة المدينة الإسبانية المشيدة شرقي بحيرة تونس
قرر السلطان العثماني سليم حسم الموقف في إفريقية فوجّه اليها أسطولا ضخما أسندت رئاسته الى علج علي باشا بيلر باي الجزائر في حين أسندت قيادة الحملة الى الوزير سنان باشا. وقد وصلت طلائع هذا الاسطول الى عرض سواحل قرطاج يوم 12 جويلية فانضمت اليها وساندتها أربع محال قادها أربعة باشاوات قدموا من إيالتي الجزائر وطرابلس. كما ساند السكان هذا الاسطول بمجرد إنزال الجند، فافتكوا برج الماء بالضواحي الشمالية وحفروا الآبار وشيّدوا المتاريس بعد أن وصلتهم الامدادات من الأخشاب وغيرها. وبنوا كدية قرب برج الماء ونصبوا فوقها مدافعهم وضيّقوا الخناق على حصن حلق الوادي بعد أن تعزز جانبهم بقدوم حشود من المقاتلين الجدد جاؤوا من عنابة وقسنطينة وبسكرة والقيروان وطرابلس وتلمسان. كما تشير المصادر الى مساهمة بعض الزعامات والقيادات المحلية الفاعلة على الصعيدين السياسي والاجتماعي في هذه الحملة فضلا عن القبائل الملتحمة بهذه الزعامات.
ولئن تمكّنت الحامية الاسبانية من الصمود حتى أواسط شهر سبتمبر من سنة 1574 فإنها قد خسرت مواقعها الاستراتيجية داخل مدينة تونس منذ يوم 17 جويلية، فانكفأ الجند عندها داخل حصن حلق الوادي الذي تمّ انتزاعه في حدود يوم 23 أوت فحطمت بأمر من سنان باشا الابراج الستة التي شيّدت على أيام فيليب الثاني ولم تتم المحافظة إلا على المركبات التي بناها والده شارل الخامس.
وعلى إثر هذا الانتصار نفرّق ما تبقى من الحامية الاسبانية على نواة المدينة المسيحية بمدينة تونس (أمر بتشييدها يوحنة النمساوي فور اختطافه لمدينة تونس يوم 9 أكتوبر 1573) حيث بلغ عددهم أثناء حصارها من طرف الأتراك يوم 29 أوت حوالي ألفين وثلاثمائة مقاتل. ولم يغادر الأسطول العثماني حلق الوادي يوم 22 سبتمبر إلا بعدما أنهى تحصّن هؤلاء الاسبان محوّلا البلاد رسميا الى وجق عسكري تابع للدولة العثمانية.
ب. دور رياس البحر الموالين للسلطنة في تسهيل التمركز العثماني بإفريقية الحفصية
توّجت حملة سنان باشا على مراكز التحصّن الاسباني بتونس المجهودات الكبيرة التي بذلها رياس البحر أو الغزاة الأتراك منذ أن تكثفت عملياتهم بالحوض الغربي للمتوسط في مفتتح القرن السادس عشر. ويعتبر عروج رايس غازي (أسله من جزيرة لسبوس أو "ميتيلان" عند بحر "السيفيد" أو بحر إيجه" من بلاد الاغريق) المهندس الحقيقي للحضور التركي بكامل بلاد المغرب. حيث قام هذا الأخير بالعديد من العمليات البحرية بالاتفاق مع السلطة الحفصية ضد الخطر النصراني. كما استولى سنة 1512 م على مدينة بجاية وثبّت تمركزه بالجزائر مع حلول سنة 1516. وهو ما دفعه بمعية أخيه خير الدين الى ضبط خطة توسعية تهدف الى الامتداد غربا وشرقا. غير أن مقتله في المواجهات التي خاضها ضد الاسبان خلال حصار مدينة تلمسان سنة 1518م هو الذي دفع بأخيه الى تأجيل تلك التطلّعات التوسعية الى حدود سنة 1934 تاريخ تمكّنه من مدينة تونس.
بعد تحرير الجزائر بشكل نهائي من الحضور الاسباني سنة 1529 عُيّن خير الدين سنة 1934 من طرف السلطان العثماني سليمان القانوني بخطة قبودان باشا وأسندت له قيادة الأسطول البحري، كما عيّن بيلر بايا على الولاية الجديدة بالجزائر. فتمكّن خلال سنة 1934 من الاستيلاء على مدينة تونس بعد فرار سلطانها الحفصي مولاي الحسن، غير أن الملك الاسباني شارلكان تمكن خلال السنة الموالية من احتلال المدينة مجددا وإعادة السلطان الحفصي الى العرش.
ولم يكن هذا الحدث ليحول دون تواصل محاولات رياس البحر الأتراك والولاة العثمانيين بكل من طرابلس والجزائر الرامية للتمركز على تراب إفريقية. فقد تمكن درغوث رايس سنة 1557 من التوغّل بدواخل إفريقية وتمكّن من إقتلاع الشابيين من عاصمتهم القيروان وانتزاع كل من جربة وقفصة والمهدية وسوسة والمنستير. وقد تحقق ذلك بفضل تنسيق محكم بينه وبين السلطان الحفصي هذا الذي توافقت مصالحه السياسية آنذاك مع الخطة التي وضعها بيلرباي طرابلس درغوث باشا.
كما تمكن علج علي باشا بعد نقله بخطة بيلرباي من طرابلس الى الجزائر من الدخول الى مدينة تونس وهزمه للسلطان الحفصي أحمد في أواخر شهر ديسمبر سنة 1569.
يتضّح من خلال هذه المبادرات، فردية كانت أو رسمية، إعتماد الدولة العثمانية على مجهودات رياس البحر من الغزاة، اعتبارا لانشغالها بتنظيم الواجهات العسكرية الشرقية (محاربة الصفويين ببلاد فارس وشيعة بلاد اليمن) إلا أن سلاطينها كانوا يتابعون بكثير من الانتباه أحداث الحوض الغربي للمتوسط عاملين على استغلال جميع الفرص المتاحة بغرض استكمال سيطرتهم على ما تبقى من مغارب العالم الاسلامي.
II/ توطين وجق الينيتشرية بتونس وطبيعة نظام الحكم العثماني الجديد بها (1591-1574)
عمد سنان باشا عند اعتزامه مغادرة تراب إفريقية بعد نجاح حملته إلى توطين دار من ديار "الينيتشرية" وهي الحامية الواحدة بعد المائة. وليس بعيدا أن تكون عناصر تلك الحامية قد تكوّنت في معظمها من مغامرين غزاة أو قراصنة بدأت عملية إدماجهم في الخدمة العسكرية منذ حلول النصف الثاني من القرن السادس عشر وقبلوا عن طواعية الإستقرار في المناطق التي تم إخضاعها نظير الإندماج في الخدمة.
وقد ضمت تلك الحامية قرابة الثلاثة آلاف جندي موزعين الى مائة وخمسين "أوده" أو دار تضم كل واحدة عشرين جنديا. وقد أوكل سنان باشا أمر هذا العسكر الجديد الى ضباطه الساميين من الأضباشية (أي رؤوس الديار المائة والخمسين) والبلوكباشية (أي رؤوس الجماعات الخمس عشرة) وذلك على منوال التنظيمات المعمول بها في الإيالة الجزائرية المجاورة.
فقد عهد بقيادة الحامية أو الوجق وتمثيل السلطان العثماني الى كل من الآغا والباشا، وهما شخصيتان تركيتان تقاسمتا المسؤوليتين العسكرية والمدنية. فقد عاد أمر الجند الى آغاهم بينما تولى الباشا مسؤولية الإشراف على بقية المؤسسات المدنية والمالية ملتزما بصرف رواتب الجند مرة كل قمرين (شهرين هجريين).
ويستعين الباشا بالديوان الذي يترأسه الآغا ويضم سامي الضباط من البلوكباشية والباش أوضات الأربعة أو كبار رؤوس الديار بالإضافة الى شواش الدخول والترجمان. مثل هذا المجلس هيئة إستشارية تجتمع مرتين في الأسبوع وتسهر على حماية مصالح الجالية التركية وتنزيل أسماء المنتسبين الى تلك الجالية في دفاتر الامتيازات أو الرواتب.
أما مؤسسات القضاء فقد عهد بالإشراف عليها الى القاضي الأفندي الذي تعيّنه الأستانة وتفوّض له أهلية البت في المخالفات وفضّها وفقا لأحكام مذهب السلطنة العثمانية الرسمي أي المذهب الحنفي. ويستعين هذا القاضي بعدد من النواب الذين يتم انتدابهم من بين القضاة المالكيين المحليين.
الدرس الثاني
البايات وتطوّر نظام الحكم أثناء القرنين
السابع عشر والثامن عشر
تقديم
تشكل تجربة الحكم السلالي المرادي والحسيني بالبلاد التونسية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مثالا حيا لتدرج النخبة العسكرية التركية الحاكمة بالايالة العثمانية الجديدة باتجاه التلاؤم مع الموروث المؤسساتي المحلي.
فقد نجح أمراء هاتين السلالتين في إعادة الروح إلى التقاليد الملكية الممركزة للسلطة متمكنين من السيطرة على مجال ترابي تميز عامة بتلاؤمه مع مقتضيات الدولة القطرية الحديثة جغرافيا وسياسيا، تلك التي مثلت كيانا متطورا سواء على صعيد التنظيم او في ما يتصل بطريقة إدارة البلاد ومراقبة المجال بالمقارنة مع ما عرفته الدولة المخزنية خلال الفترة الوسيطة.
شكّل هذا التدرّج السريع نسبيا باتجاه إعادة العمل بفردانية تصريف أمور الدولة بعد مدّة وجيزة من تجربة الحكم الجماعي ثم الرجوع الى تقاليد توارث الحكم داخل عائلة أو سلالة واحدة نزوعا واعيا باتجاه دعم الاستقرار وتوثيق الصلات المصلحية مع بالسكان وفضّ الخلافات القائمة مع الأجوار وتشجيع التجارة بفضل عقد المعاهدات مع الممالك الأوروبية، وهي مبادرات ساهم تضافرها في تمتين الانتعاشة الاقتصادية التي مرت بها البلاد خصوصا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
I/ تجربة الحكم الوراثي للسلالة المرادية
اتصلت هذه التجربة السلالية في الحكم بواحد من مماليك أول البايات المعينين من قبل عثمان داي على رأس المحلّة ونقصد مراد كورسو(1613-1633) مملوك رمضان باي (1598-1613). في الواقع يعد الباي مراد شخصية غامضة لا نعرف بالشكل الكافي العوامل التي ساهمت في توصلها- بالرغم من المنافسة الشرسة التي حفت ببدايتها- إلى فرض نفسها واخذ مكان مخدومها . غير أن بروزها يبدو انه قد جاء نتيجة لمساعدة احد أكفا أعوان القائد رمضان ونقصد الكاتب والوزير صغير بو صندل، وكذلك للمجهود الكبير الذي بذله في استنباط الحلول الناجحة لمسالتين محوريتين كان لهما دور محدد في تفعيل طموحاتها بالمقارنة مع غيرهما من المنافسين (كالقائد رجب الأخ الأكبر للباي رمضان). تتمثل هاتان المسألتان في الإسراع في فض الخلافات الحدودية مع الاجوار ثم التركيز اثر ذلك على إخضاع جيوب الممانعة المتحصنة عند تلك التخوم الحدودية سواء بالشمال الغربي أو الجنوب الشرقي للبلاد.
ركزت كتب الحوليات في معرض حديثها عن الحملات التي قادها مؤسس البيت المرادي أي مراد كورسو وابنه محمد المعروف بحمودة (1631-1666) في غضون المرحلة التاريخية الممتدة بين 1628 و 1644، على توفق السلطة الصاعدة في إخضاع القبائل المحاربة التي تحصّنت بالمرتفعات الجنوبية الشرقية والشمالية الغربية للبلاد واستهدفت عمليات الإخضاع "أولاد سعيد"و"الشنانفة"و"أولاد بالليل"و"أولاد بوسالم" و"أولاد حمزة" و"الحنانشة"، وهي فصائل ساهمت بمعية الكعوب في إقصاء الذواودة منذ أواسط القرن الثالث عشر وحلت محلهم في معاهدة سلاطين الدولة الحفصية.
غير أن تراجع قوة الدولة مع بداية القرن السادس عشر وفر لتلك المجموعات القبلية الفرصة لتصعد من نسق عملياتها الاغارية مجبرة التجمعات المستقرة على الخضوع لسلطتها وصرف إتاوة مرتفعة لها نظير الدخول في حمايتها . ويبدو أن ساعة الحسم قد حانت بعد نجاح الباي مراد الذي وصف بأنه كان صاحب دهاء وان له سياسة لم تكن لغيره في توريث قيادة المحلة (الجيش االمرادي) لابنه الوحيد حمودة بعد أن تخلى له عن ذلك المنصب مكتفيا لنفسه بالمنصب الشرفي للباشا الذي جد في طلبه من الآستانة.
ويعتبر الباي حمودة الذي شب في كنف إحدى العائلات التونسية الوجيهة والذي كان يتميّز بذكاء حاد ورأي مصيب، الممهد الحقيقي للبلاد، فقد واصل حمودة ما بدأه والده من مجهود مركزا عمليته على مجال جغرافي ممتد واتصل بمحورين أساسيين:
واحد جنوبي شرقي شمل مجال خصب "أولاد سعيد" الذين كانوا يلجأون إلى الحامة (وهي واحة تقع بالقرب من مدينة قابس وتقع على سهلي الجفارة والأعراض شرقا وعلى جبال مطماطة غربا). أما المحور الثاني فيقع بالقرب من المرتفعات الشمالية الغربية التي يتمركز بها بنو شنوف المتغلبين على وطن الكاف.
II/ السلالة الحسينية وتجربة الدولة الملكية خلال القرن الثامن عشر
برزت العائلة الحسينية على أنقاض التجربة السلالية المرادية واستفا دت من سياسة حكامها المنفتحة على دواخل البلاد. وعلى الرغم من التعثر الذي شاب بداية مسيرتها اعتبار للمواجهة الدامية التي خاضها مؤسسها حسين بن علي التركي ضد ابن أخيه علي باشا والحرب الأهلية أو الحقبة التي ترتب عن صراعهما , فان ابن ذلك المؤسسس ونقصد محمد الرشيد وكذلك حفيد حمودة باشا فقد تمكنوا من طي صفحة الهزات السياسية ونشر الاستقرار في اغلب أجزاء البلاد الأمر الذي ساعد على حصول انتعاشة اقتصادية عمرت ما لا يقل عن نصف قرن.
ينحدر والد الباي حسين الملقب بعلي تركي من أصل يوناني فقد حل علي تركي على تونس خلال خمسينات القرن السابع عشر منخرطا لتوه في الخدمة العسكرية قبل أن يتزوج من عائلتين تونسيتين تنتسبان إلى فصيلان بدويان هما بني شنوف وشارن وينجب ابنه محمد وحسين.وقد سهل هذا التمازج السريع بين هذا الانكشاري الوافد من البحر وكبريات العائلات التونسية المنتسبة الى بدو الدواخل.حاصلا طبيعيا وكليا علما وان كل من محمد وحسين لم يحذفا اللسان الطوراني (اللغة التركية) وترعرعا في كنف أخوالهما التونسيين.